ترى... ما يفعل اولئك الذين كانوا ذات يوم ملء القلب والعين والزمان والمكان، ثم رحلوا عنا وتركوا في العيون دمعا وفي الافئدة حسرات، ولا يفتأ الزمان يستحضرهم، والمكان يبحث عنهم؟هل يذكروننا كما نذكرهم؟ هل تبحث عيونهم عنا، كما تبحث عيوننا عنهم، حتى اذا ما استيأست من حضورهم سكبت دمعا صامتا مقهورا على غيبتهم؟ هل يحن خافقهم كما تفعل قلوبنا التي اذا ما حنت اليهم ازداد نبض الشوق فيها فتحطمت على صخرة العجز عن الوصول اليهم؟!.
ان اقسى ما يعانيه من بقوا بعد رحيل الاعزاء، قسوة المكان الذي يصر مع كل لحظة زمن على تذكرهم، بان الذين رحلوا هنا جلسوا وهنا وقفوا، ومن هنا جاءوا ومن هنا ذهبوا، وهم في روضات عالمهم الذي رحلوا اليه، يعيشون حيث لا تعرف عنهم الا ما ترسمه امانينا بان ارواحهم في عيش رغيد افضل مما كانوا عليه وهم بيننا، هم هناك في رغد بعد الرحيل ونحن هنا في حسرة ما بعد الرحيل يغمرنا اسى مع كل ذكرى.
واكثر الذكرى الما، تلك التي ترسمها نهايات هؤلاء الاعزاء عند لحظة الرحيل، ذلك ان ملامحهم وآلامهم واحوالهم وما كانوا عليه عند تلك الحظة، تبقى الابرز حروفا و الاوضح كلمات والابقى جملا وصورا في النفس وفي الذكرى نستعيد عرض احوالهم تلك فوق شاشات الزمان والمكان فهذه الجمل الاخيرة هي التي ترسم في الوجدان صور الاحباب الراحلين وهي صور تأتي غالبا بألوان الالم واحيانا، اخرى بخطوط الحسرة واحيانا ثالثة على شكل لوحات رسمها القهر والعجز والقصور، حين يرحل عزيز من بين يديك خطفا على ظهر ثانيه زمن واحدة، او عجزا لان مرضا اعجز العلم بحثا عن شفائه، او حسرة لان الظرف لم يسعف بلحظة وداع واحدة قبل الرحيل.
وتأتي ذكرى الرحيل تكرار واصرارا تأتي بثوبها نفسه، وعند لحظتها ذاتها تعيد الى مسرح الحياة مشاهد الرحيل حية كما كانت، فتحيي في النفس ينابيع الالم وتبعث في الذات مكامن الجراح وتنشيء من جديد اسى وحزنا لم تقدر الايام على ان تحد من عمقه واثره وتداعياته في النفس فمع كل ذكرى يرحل الاعزاء من جديد وتتداعى الى النفس طقوس الحزن وكأنه اول الرحيل، يجيء البكاء حارا كأننا عند وقفة الوداع الاخير وتكون الحسرة اكثر الما كأننا في النظرة الاخيرة والالم اكثرعمقا كأننا عند موقف الرؤية التي اختزناها من وجه عزيز اخذته طريق اللاعودة سلكها الى الغيب.
الامكنة تعيد مشهد حضور الراحلين، والازمنة ترسم على جدران التذكر مشاهد الحزن الذي كان وفي محراب الشوق، تتوالد طقوس استدعاء الراحل الغائب على جناح الاماني وخيال الامنيات هكذا تأتي ذكرى رحيل الاعزاء الراحلين دوما اكثر تفصيلا من احداث الرحيل الاول.
تحيط بنا ذكرى رحيل عزيز أبي الذي كان ملء القلب والعين وسيد الزمان والمكان لكنه ذات لحظة فجأه رحل، ولان حضوره كان طاغيا واسعا عميقا ثابتا جاء رحيله ايضا طاغي الالم عميق الحزن ثابت الاسى انتج دمعا حارا واسى غاضبا وحزنا منفعلا كل هذه لا تغادر النفس، هكذا تعيد ذكرى رحليه دوما سيرة حياة حفلت بعطاء حين انتهت تلك الحياة ادرك الزمن ان رحيلا كبيرا قد وقع.
هو ذاك... اعظم الحزن واشده الما انما يزرعه في النفس رحيل اولئك الاحب والاعز على النفس في حياتهم يعلقوننا بهم بحبال الحب والعطف والحنان حتى اذا ما صاروا صنو النفس وكل الذات، تركونا ورحلوا وخلفوا من بعدهم ذكرى رحيلهم هذه الذكرى التي اعيشها الآن وانا استعيد رحيل ابو داود ذكرى تذكرني بحجم عجزي عن فعل ما يطفئ الشوق ويلبي الاشتياق فلا املك انا ورفيقة دربه الا ان نسأل له رحمة تغنيه عن غير الله... اليوم استشعر الم واسى كل اولئك الذين فقدوا ذات لحظة زمنا عزيزا عليهم، تحل بينهم ذاكراه اشاطرهم ذكراهم وانا استشعر انهم يشاطروننا ذكراي اذا كان النسيان نعمة فان ذكرى عزيز رحل انبل ما في الوفاء.